top of page
MeryemBrahimiIcon.png

دولة ما بعد الاستعمار البناء الإيديولوجي السياسي والتنموي و الفشل الدولاتي

Writer: Meryem BrahimiMeryem Brahimi

Updated: Nov 22, 2018


تعددت الدراسات و الأبحاث حول دولة ما بعد الاستعمار Post-Colonial States من حيث الأبنية المختلفة نظريا و امبريقيا. من الصعب تخيل أن ما يقارب 84℅ من الدول في العالم كانت مستعمرة من قبل القوى الأوربية، إلى غاية سنة 1921 على اقل تقدير، و بدأت هذه الحركة الاستعمارية منذ القرن السادس عشر، و مع سنوات الستينات استقلت اغلب المستعمرات لكن خلف الاستعمار العديد من الإشكاليات بالنسبة للهوية و الثقافة السياسية إلى غير ذلك، من ما صعب بناء دول مستقرة و إيجاد أنظمة سياسية مناسبة، و عليه حدث تقليد أو استيراد لنظام الحكم، تأثرا بالدول المستعمرة في ظل أوضاع تتسم بالفوضى. و منه تحاول هذه المداخلة البحث في الأبنية السياسية و الإيديولوجية، و البرامج التنموية المتبعة في فترة ما بعد الاستعمار، و كيف سارت بعض هذه الدول نحو الضعف او الفشل، لتصبح من أهم الظواهر التي تتم دراستها في الفترة الحالية، و ظهور نظريات مفسرة لذلك، على غرار نظرية الدولة الفاشلة، و نظرية ما بعد الاستعمار Post-Colonial Theory .

ستتطرق هذه المداخلة إلى البناء الإيديولوجي و السياسي، كذا الاقتصاد و التنمية لدولة ما بعد الاستعمار، مبرزين التأثر بالدولة المستعمرة و التجربة العربية في هذا الإطار. لننتقل إلى عنصر مهم و هو الفشل الدولاتي و علاقته بالتجربة الاستعمارية، معتمدين على أهم المقاربات و النظريات المفسرة لتعثر دولة ما بعد الاستعمار. و في الأخير سيتم التركيز على نماذج مهمة لفشل دولة ما بعد الاستعمار، على غرار النموذج الصومالي و التشادي و الكونغولي كذا كل من ليبيريا و سيراليون. حيث تدور الدراسة بالأساس على نقطة مهمة; انه مهما اختلف واقع الدول النامية، فان اشتراكها في الماضي الاستعماري يعد من أهم النقاط التي يعتمد عليها في دراستها; كونها من أهم المتغيرات التي أثرت بشكل عميق على مستقبل هذه الدول في إطار مسار يتسم بالتبعية.

البناء الإيديولوجي و السياسي لدولة ما بعد الاستعمار:

حدثت موجة تحرر واسعة المدى و شاملة لأغلب مناطق نفوذ القوى الاستعمارية الأوربية، في كل من آسيا و الشرق الأوسط و إفريقيا و الكاريبي، إذ و خلال فترة قصيرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية تحررت أول دولة من دول إفريقيا السمراء، و هي غانا التي كانت مستعمرة من طرف البريطانيين تليها باقي الدول، و خلال فترة الثمانينات استقلت اغلب الدول المستعمرة، حيث مثل هذا تحولا مهما و عميقا على مستوى الجيوسياسة و العلاقات الدولية عموما، في إطار ضعف القوى الأوربية و بروز كل من الاتحاد السوفياتي و الولايات المتحدة الأمريكية[i]. لكن التساؤل المطروح هو ماذا كان بعد التحرر؟

تؤثر الخبرة الاستعمارية للدولة من زاويتين، أن ظهور الدولة ككيان سياسي، و وجود سلطة سياسية مركزية قوية و استقرارها مستقبلا، أما النقطة الثانية فهي فترة الاحتلال و طبيعة السياسات المتبعة حينها في إطار حكم أو احتلال مباشر أو غير مباشر، كذا استقلالها أن كان عن طريق مقاومة مساومة أو حرب تحرير، حيث تساهم هاتين النقطتين المهمتين في تشكيل إيديولوجية النظام و القوى الفاعلة فيه[ii]. بالنسبة للنقطة الأولى الذي يسيطر على أهم القرارات السياسية المتعلقة بالأمن و الدفاع و السياسة الخارجية، و توضع الدول الخليجية نموذجا لذلك ثم الاستعمار التذويبي الاستيعابي الذي يتعدى المصالح الاقتصادية و العسكرية، ليشمل حتى الثقافية منها من خلال محو الثقافة الأصلية للبلد المستعمر، و توضع الجزائر مثالا لذلك. و ثالثا الاستعمار الاستيطاني الاحلالي و يبرز في إطاره الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين، من خلال عمليات التهجير و القمع و تشجيع استيطان اليهود مكان الفلسطينيين، و هذا ما يمكن ربطه بالعديد من النقاط المهمة و هي:

تطور الهياكل الاجتماعية

خلق نخب مختلفة

ظهور صراعات اثنية و عرقية

يمكن توضيح هذه النقاط كما يلي :

بالنسبة للهياكل الاجتماعية و الاقتصادية فان الاستعمار البريطاني لم يهتم بها مثل الفرنسي، كونه يركز على المنطقة كمحطات للبريد و التموين من خلال مواصلاته مع الهند، و استخدام موانئها كمنافذ لتجارة الترانزيت. حيث قام الاستعمار بتطوير الهياكل لكن بشكل انتقائي مشوه يخدم مصالحه، انفتحت فئات على العالم الغربي و أخرى ظلت على حالها مما خلق إشكالية الحداثة و المعاصرة، فظهرت النخبوية الطبقية والطائفية[iii]، الأمر الذي تطور إلى صراع نخبوي و حروب و صراعات اثنية، صعب على الأنظمة السياسية حديثة النشأة عملية التنمية و إيجاد الاستقرار.

أما بالنسبة للعنصر الثاني الذي يرتكز على طريقة الحصول على الاستقلال، فيتم وضع الاستعمار في الدول العربية وفقا لثلاث أنماط، نمط الاستعمار التقليدي السياسي، أثرت طريقة حصول الدول العربية على استقلالها على إيديولوجياتها في ما بعد، فالدول التي خاضت تجربة كفاح عسكري مسلح على أعلى المستويات تبنت عادة إيديولوجية ثورية، أساسها مركزية الدولة و مناهضة الاستعمار و دعم حركات التحرر، بالمقابل فالدول التي حصلت على استقلالها بالتفاوض، لم يتغير شكل نظامها بطريقة قسرية عنيفة، تبنت عادة إيديولوجية محافظة أساسها الإبقاء على الوضع القائم و تنشيط القطاع الخاص[iv].

تعتبر دولة ما بعد الاستعمار ­ في إفريقيا خاصة ­ نموذجا مستوردا تم تهميش البنى الاجتماعية، لم تتم تكييفه ليتناسب مع خصوصية شعوب هذه الدول، كما تسيطر النخبة الحاكمة على النظام السياسي في هذه الدول، التي يمكن القول بأنها في أزمة اقتصادية منذ سبعين عاما تقريبا، و تواجه مشكلة التبعية على مختلف الأصعدة الإيديولوجية منها و الاقتصادية[v]. يمكن توضيح المسار الإيديولوجي الذي أدى إلى وقوع دول ما بعد الاستعمار في التبعية، و الضعف مؤسسات الدولة، حيث تبنت العديد من النظم العربية الإيديولوجية الاشتراكية، بعد حصولها على الاستقلال، حيث أبدت تركيزها على المساواة و العدالة الاجتماعية، مقارنة باللبرالية بشقيها السياسي و الاقتصادي.

بالنسبة لتداول السلطة في دولة ما بعد الاستعمار برزت ظاهرة الانقلابات العسكرية و ذلك لضرورة الاستعانة بالجيش في ظل الفوضى الاضطراب التي تلي مرحلة الاستقلال فعلى سبيل المثال و ليس الحصر شهدت سورية عام 1949 ثلاث انقلابات عسكرية قادها كل من حسني الزعيم، سامي الحناوي و أديب الشيشكلي و تلتها ستة انقلابات أخرى[vi] .

بالنسبة لتأثير الماضي الاستعماري على دساتير الدول، فيبدو ذلك بشكل واضح بالنسبة للملكة المغربية ­على سبيل المثال و ليس الحصر­ حيث برز التأثر بدستور الجمهورية الفرنسية الخامسة بشكل واضح، من خلال الدستور المغربي لسنة 1962، و الذي شهد تعديلات متعددة سنة 1972 و 1992 و 1996و 2011. أما بالنسبة للجزائر فاختيارها للتوجه الاشتراكي انعكس على دستور سنة 1962، إلى غاية إصدار دستور 1989 حيث تحولت عن هذا التوجه[vii].

واجه عملية بناء الدولة في الدول حديثة النشأة و الدول التي خرجت من مرحلة استعمار، العديد من الإشكاليات التي أدت إلى وجود حالة من عدم الاستقرار، أو بالأحرى الأزمة الكامنة، التي تنفجر بدخول متغير جديد، و من أهمها:

إشكالية شرعية النظام و علاقته بالنخبة العسكرية أو النخبة الحاكمة:

تجب الإشارة مبدئيا إلى نقطة مهمة، و هي أن جميع الأنظمة السياسية تعرف شكلا من أشكال التدخل الجيش في السياسة، و أن فكرة أو مبدأ الجيش المحايد غير المسيس، تعد مفهوما دستوريا و ليس حقيقة سياسية واقعة، للجيش مصالح يضغط لتحقيقها، قد تصل إلى توريط الدولة في نزاع خارجي، لكن يختلف هذا التأثير و التدخل، من خلال المستوى و الأبعاد و الآليات و المدى و الأهداف، فقد يكون تدخلا سافرا من خلال انقلاب عسكري و السيطرة على الحكم، أو قد يقدم الجيش أهم عناصر النخبة الحاكمة، أو التأثير على السياسة الخارجية للدولة، إذ يتم إعطاء النموذج الأمريكي كأهم مثال على ذلك[viii].

تشكلت جماعة العسكريين علي رأس النخب خلال مرحلة الاستعمار من اجل الكفاح ضد الاستعمار، لذا فان المؤسسة العسكرية من أولى مؤسسات الدولة التي ظهرت. يرى بعض علماء الاجتماع أن الجماعة الإستراتيجية التي تظهر أولا في السياق الزمني، تكون المسيطرة من حيث الثروة والقوة[ix].

بالنسبة للجيوش في الدول العربية، فيتم تقسيمها إلى جيوش قومية التي تسعى إلى تكوين دولة قومية موحدة، على غرار الجيش المصري، و النموذج التحريري الذي ينشا خلال مرحلة الاستقلال على غرار الجيش الجزائري، و الجيوش القائمة على اثنيات أو قبائل و هو النموذج الفئوي، لكن قد يتحول النموذج إلى آخر على غرار الجيش الجزائري، الذي يعد جيشا قوميا[x].

أزمات الانتماء و الهوية The Identity Crisis :

تبدأ أزمة الهوية بالنسبة للدولة حين تصبح الولاءات التحتية للدولة من القوة بما يجعلها موضع منافسة مع الولاء للدولة، و المقصود بالولاءات التحتية الولاء للأسرة الممتدة أو العشيرة أو القبيلة أو لجماعات معينة مهما كانت توجهاتها، و هو ما يتم الإشارة إليه بالنسبة للدول النامية عموما بما فيها الدول العربية، و يبرز مثال لبنان بشكل واضح في هذا الإطار; حين يعرف المواطن نفسه بأنه سني أو شيعي أو درزي أو ماروني[xi]، كما يبدو بشكل مهم بالنسبة للصومال، و هو ما سيتم التركيز عليه في النقطة المتعلقة بنماذج فشل الدول. يتم ربط نشوء الولاء الكامل لجماعة ما في فترة الاستعمار بمقاومة الجماعة و هنا يظهر الاختلاف فيما يتعلق بالجماعة التي سيطرت على السلطة و هو ما برز بوضوح في القضية الكونغولية أي سيطرت من خلال الرئيس تومبلباي من جماعة السارة[xii].

كما يمكن الإشارة إلى مشكلة مهمة في إطار الولاء و الانتماء للدولة فان هناك جماعات ترفض بالأساس حدود الدولة[xiii] لتواجدها على تراب دول متعددة و هنا تبدو هويتها مختلفة ع دولتها و هو ما يخلق و يغذي الدافع نحو التوحد و تشكيل دولة قومية حيث تعتبر هذه النقطة من المشاكل الخطيرة التي تواجه بعض الدول الإفريقية­التي يتم ربطها بالاستعمار­ خاصة في منطقة الساحل و تمرد الطوارق في مالي حيث هناك تخوف من أن ينتشر نحو النيجر و الجنوب الجزائري و موريتانيا.

التنمية في دول ما بعد الاستعمار:

من خلال ما سبق التطرق اليه و رأي العديد من الباحثين فانه يمكن القول بأنه سواء كانت الدول قد حصلت على استقلالها من خلال المفاوضات التعديلات الدستورية أو حروب تحررية فان ذلك لا يبني اختلافا واضحا فيما يتعلق بتأثير الدول المستعمرة عليها بعد الاستقلال[xiv]. و هذا ينطبق على برامج التنمية التي اتبعتها هذه الدول في ظل الظروف المتشابهة إلى حد ما في ما بينها، على مختلف المجالات سياسيا اقتصاديا و اجتماعيا. كانت المهمة الأول بالنسبة للدول المستقلة حديثا هي بناء الدولة، و خلق التجانس والوحدة فيها ، حيث كان علي النخبة التي تشكلت مع المقاومة أن تخلق ثورة تكاملية عن طريق تدعيم مؤسسات الدولة حديثة النشأة في ظل بروز الاختلاف من حيث الدين و العرق. كما كان عليها أن تواجه أزمة الفقر والأمراض والأمية، بسياسة تحديثية متكاملة .و أن تنقل النظام السياسي نحو التوازن و الاستقرار، وأن تدفع الشعب إلي مزيد من المشاركة في بناء الدولة، وأن تنقل المجتمع إلي حالة يتواكب فيها مع المتغيرات العالمية من حيث المستوي المعيشي والتكنولوجي والثقافي. باختصار كان عليها تحديث المجتمع، أو تحويل نظم التحديث التي أقامها الاستعمار إلي نظم تخدم الأهداف الوطنية في إطار دولة وطنية.

لتأسيس الدولة الوطنية الحديثة بدأت النخب في اختيار نماذج للتنمية والتحديث، وتراوحت هذه النماذج بين استيراد النماذج الجاهزة من الغرب أو الشرق وفقا للتوجه الأيديولوجي الذي كان يسيطر علي هذه النخبة، وبين تطوير أطر خاصة تراعي الظروف المحلية في عملية استيراد هذه. ومن هنا ظهرت مفاهيم مثل الاشتراكية الإفريقية والاشتراكية العربية، لكن كانت اغلب عمليات استعارة النماذج ناتجة عن انتقاء عشوائي، بل أن النخب السياسية المتتالية ، والتي جاءت بناء علي انتقال طبيعي للسلطة أو بناء علي انقلابات عسكرية ، اتخذت قرارات سريعة دون تحديد إستراتيجية منظمة، أدت إلى تراجع برامج التنمية التي بدأت بالعمل من اجلها. حيث فشلت هذه البرامج التنموية في معظم بلدان العالم النامي، و دخلت العديد من دول ما بعد الاستعمار في صراعات وحروب بين الجماعات و الدول المجاورة أو بين فئات متصارعة من النخبة ذاتها، حيث تفاقمت مشاكل الفقر و الأمية و البطالة[xv].

عند البحث في فشل التنمية في دول ما بعد الاستعمار خاصة الإفريقية، تتم الإشارة بشكل رئيسي إلى متغيرات داخلية على غرار البيئة السياسية الداخلية، الفشل السياسي و قصور البورجوازية الوطنية كذا التسلط و الدكتاتورية، الأبنية غير المتناسبة أو المتوافقة بالنسبة للدولة، و إعطاء دور هامشي للمتغيرات الخارجية، مثل دور المؤسسات الاقتصادية العالمية على غرار البنك العالمي و المستشارين الأجانب، كذا المصالح الأجنبية في القارة، في حين يتم التركيز على الجانب المؤسساتي البنيوي فيها حيث تعتبر نجاح التنمية لن يتأتى إلا من خلال بناء دول و مؤسسات اجتماعية قادرة على المضي في مسار التنمية، كما أن هناك توجه يرى بان الحل الأمثل هو ضبط العلاقة القوة بين النخب السياسية التي تتولى الحكم و النخب البيروقراطية، و هذا التوجه أيضا أهمل العنصر الأجنبي

من المفكرين الأفارقة الذين اهتموا بشكل كبير بالتنمية في إفريقيا من الناحية المؤسساتية نجد لومومبا كاسونغو Lumumba-kasongo الذي يرى انه على الأفارقة إعادة بناء دولهم، لكي تتمكن من حل المشاكل المتعلقة بالفقر كذا التفرقة و اللاعدالة بشكل فعال، حيث وضع من اجل ذلك نقاط محددة و هي: استعادة و امتلاك الدولة من خلال السيطرة على مواردها، تسير البلاد من خلال إرادة الشعب و مصالحه كذا التكامل و التعاون الإفريقي[xvi]، من المهم توضيح أن الدول الإفريقية قد حاولت دعم التكامل الإفريقي و العمل الإفريقي المشترك، و برزت تجارب ناجحة في هذا الإطار، على غرار الاتحاد الإفريقي، لكن لا يزال التعاون و التكامل فيما بينها ضعيفا خاصة على المستوى الاقتصادي[xvii].

الفشل الدولاتي و علاقته بالاستعمار:

مقاربة الدولة الفاشلة:

ظهر مفهوم الدولة الفاشلة بشكل واضح بعد نهاية الحرب الباردة مع سلسلة التدخلات الدولية لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، و التي قادتها الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الفترة، حيث حصلت أهم التدخلات في زمبيا 1991، السلفادور 1991، أنغولا 1991، كمبوديا 1991، الصومال 1993 ،يوغسلافيا 1993، هاييتي [xviii]1994. لكن لا يعتبر المفهوم وليد مرحلة بداية التسعينات بل يرتبط بمفهوم الدولة الضعيفة و التي ستتم الإشارة إليه بشكل أوضح.

استخدم مفهوم الدولة الفاشلة بشكل أكاديمي لأول مرة سنة 1993 ، في مقال نشره جيرالد هيلمان و ستيفن راتنر في مجلة السياسة الخارجية، إذ أشار الباحثان إلى الدول الضعيفة التي أصبحت عاجزة على تحمل مسؤولياتها تجاه مواطنيها، كذا مسؤولياتها كعضو في الجماعة الدولية[xix].

هناك مجموعة من الأسباب أدت إلى ظهور ما يسمى بفشل الدول:

يعتبر الضعف الاقتصادي من أهم أسباب ضعف و فشل الدول، لكون بناء مؤسسات البلاد و إيجاد استقرار فيها يتطلب تحسين مستوى المعيشة و تقليل نسب البطالة، فمن خلال تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة يتضح أن هناك مشاكل اقتصادية كبيرة، تصل إلى توقع كوارث إنسانية و مجاعة في إفريقيا. لكن لا يمكن الفصل بين الفشل الاقتصادي و الفشل السياسي؛ فالاهتمام بالاقتصاد و تقويته إن كان ذلك ممكننا حقا لن يحل المشكلة، لان الاستقرار في الدولة يتطلب مؤسسات اقتصادية مستقرة، و تنمية اقتصادية تستند عليها من حيث الموارد المالية[xx].

إن التنوع الإثني و الثقافي في ظل غياب ثقافة قبول الأخر و التعامل معه، كما يشير باري بوزان إلى انه إضافة إلى هذا التنوع وبسبب ضعف بعض الدول الإفريقية، أصبحت جماعات صغيرة كذا عائلات تتجمع لخدمة مصالحها الخاصة، مشكلة بذلك جماعات إثنية[xxi]، من ما يزيد من معدل الصراعات من اجل السيطرة في هذه المناطق.

يشرح باري بوزان أسباب تعثر الدول الإفريقية في مسارات البناء التي دخلتها منذ الاستقلال، مرجعا أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور دول افريقية ضعيفة إلى الفترة الاستعمارية التي شهدتها، و التي تركت أثارا عميقة على المجتمعات الإفريقية، إضافة إلى التنوع الاجتماعي، في كتابه المعروف: المناطق و القوى : بنية الأمن الدولي.

حيث يقول أن المشكلة بالنسبة لدول إفريقيا تكمن في كونها دفعت فاتورة كبيرة للتحرر، و تحاول تقليد النموذج الأوربي لبناء الدولة. إن الدول الإفريقية ضعيفة من حيث مستويات التلاحم الاجتماعي و السياسي، كذا من حيث قوة و قدرة الدولة اقتصاديا و سياسيا و عسكريا[xxii].

نظرية ما بعد الاستعمار:

ظهر مصطلح ما بعد الاستعمار في إطار النظرية السياسية، في بداية السبعينات مع مشاكل البناء و الاستقرار التي واجهت الدولة المستقلة حديثا. و يتم التمييز بين دراسات ما بعد الاستعمار و نظرية ما بعد الاستعمار من حيث كون هذه الدراسات قديمة. و يشار مبدئيا الى الطبيب النفساني الانتيلي المناضل فرانز فانون، من خلال أعماله المناهضة للاستعمار، و أهم مؤلفاته في هذا الإطار نشير إلى معذبو الأرض Les Damnés de la Terre الذي قام بتقديمه جون بول سارتر، حيث يعتبر المبشر الأول بنظرية ما بعد الاستعمار[xxiii]. بالنسبة لفكرة المابعدية فأشارت ليلى غاندي إلى مقولة ليوتار بأنها الجدل و التطلع إلى عالم أفضل مما يؤكد أنها ليست ذات طابع كرونولوجي تاريخي مرحلي[xxiv].

انطلقت نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي من الجامعات الانجلوفونية، تحديدا الأمريكية منها، حيث ارتبطت بجامعة كولومبيا. يمكن الإشارة إلى نظريات نقدية أخرى، على غرار الأرسطية الجديدة، التي ارتبطت بجامعة شيكاغو، و دراسات الجنس "الجندر" الدراسات النسوية بجامعة إنديانا. برز في هذا الإطار باحثون و مفكرون من أقليات مهاجرة من مجتمعات و دول ما بعد الكلونيالية، من أهمهم: ادوارد سعيد، بهابها هومي Bhabha Homi، و سبيفاك جياتري شاآرافورتي Spivak Gayatri Chakravorty الملقبة ب: نصيرة نساء الاستعمار، حيث يطلق عليهم تسمية الثالوث البارز أو المقدس. و تأثر بهم العديد من المفكرين و الباحثين و الكتاب في مجالات متعددة مثل التاريخ و الأنثروبولجيا والجغرافيا و الأدب، على غرار ساندرا هاردين، بنيتا باري و إلا شوهات و روبرت يونغ...الخ.

لم تعرف هذه النظرية انتشارا واسعا في بداية ظهورها كونها تزامنت مع العقد الأخير للحرب الباردة و الذي شهد ظهور العديد من المقتربات النظرية النظريات المهمة على غرار التفكيكية و التي من حيث البناء النظري تختلف عن ما بعد الكولونيالية. الا ان النظرية ظهرت بشكل أوضح مع تغير الأنساق، و على هذا الأساس تم وضع حدث مهم على غرار أحداث الحادي عشر من سبتمبر انه حدث ما بعد كولونيالي. كما تأثرت حتى إسرائيل بالنظرية حيث ظهر ما يسمى بالمؤرخين الجدد الذين سعوا إلى نقد الأسطورة الإسرائيلية، من خلال تأسيس الدولة العبرية سنة 1948،مثل: ايلان بابي، باروخ ايمرلنغ، بنيامين بيتلحمي، حيث اعتبر هذا الأخير أن الحركة الصهيونية جزء من الحركة النازية.

من المهم الإشارة إلى تأثر ادوارد سعيد بميش،ال فوكو كما كان تاثير جاك دريدا على بهابها من خلال فك الاستعمار، يتم تبيين كون كل من دريدا و جون فرانسوا ليوتار فيلسوف ما بعد الحداثة و ايلين سيكو الناقدة النسوية، أنهم نشؤو في الجزائر في فترة الاحتلال الفرنسي، و هو ما أشارت إليه سيكو بقولها: أن تواجدهم بالجزائر في تلك الفترة، من العوامل الرئيسية التي دفعتهم لتفكيك خطاب التفوق الغربي و المركزية الأوربية[xxv].

يتم نقد النظرية بالقول أنها أشبه بقوس قزح و أنها قائمة على الترقيع و التوليف، لكن من المهم الإشارة إلى ظروف ظهورها و روادها الأوائل الذين يعتبرون مختلفين من حيث الأصول و اجتمعوا في أمريكا بسبب الاستعمار حيث توصف بأنها حركة احتجاج أكاديمية. و يرى ادوارد سعيد أن الاستعمار متواصل بشكل مختلف عن ما كان عليه، و تواصله ليس في أشكال اقتصادية بل عسكرية أيضا، حيث يقول ستانلي مود في هذا الإطار بعد احتلال العراق سنة 1917: أن جيوشنا لا تأتي إلى مدنكم كمحتلين أو أعداء بل كمحررين و هو ما تم الاستناد عليه في الغزو الأمريكي للعراق سنة 2003، و يرى الكاتب الباكستاني طارق علي، بان الخطاب الأمريكي الحالي المضاد للاستبداد و الداعم للحرية، هو نفس الخطاب في الحرب الباردة، هو خطاب الإمبراطورية البريطانية و الفرنسية و استخدمه هتلر بشكل ما[xxvi].

علاقة فشل الدولة بالاستعمار:

ظهرت العديد من الأبحاث المركزة على فشل بعض الدول، التي تعتبر دول ما بعد الاستعمار، و تم إيراد العديد من الاقتراحات للخروج من حلقة عجز الدولة و ضعفها و فشلها، لكن اختلفت الدراسات من حيث منطلقاتها، غير انه قد لفت انتباهي دراسة للباحث الافريقي فونشينجوغ طانجي Fonchingong Tangie و الذي وضح فيها: أن المساعدات الأجنبية و الحدود الموروثة على الاستعمار كذا ضعف التنسيق الإفريقي، تعد هي أهم ثلاث نقاط يجب مراعاتها في هذا الإطار، مبيننا أن: كما يرى انه يجب إعادة رسم الحدود الجغرافية لهذه الدول Restructuring of Territorial Boundaries in Africa، لأنها من أهم أسباب اللاستقرار و الصراع انطلاقا من التركيز على العنصر الاثني[xxvii]، لكن هذا سيثير مشاكل و صراعات أخرى على المستوى المحلي و الإقليمي و الدولي لهذه الدول حيث يرى العديد من الباحثين على أن للفترة الاستعمارية و إشكالية الحدود و الصراعات التي نتجت عنها، دور مهم في تمهيد الطريق لهشاشة مؤسسات الدولة في أفريقيا جنوب الصحراء. ويمكن القول أن: دول المنطقة قد فشلت قبل أن تتشكل[xxviii].

يعتمد مفهوم الدولة الفاشلة على التزام الدولة بمسؤولياتها كما ترتكز سيادة الدولة على التزامها بمسؤولياتها حيث بدا التأكيد على ذلك منذ سلام واستفاليا The peace of Westphalia و التي أنهت حرب الثلاثين عام سنة 1648 بالتركيز٬ على وجوب احترام سيادة الدول و بدا من خلالها التاريخ للنظام الدولي باعتبار أن كل دولة لها سلطة على أراضيها وفقا لحدودها الجغرافية[xxix]. إن ربط فشل الدولة بالمسؤولية هو لتحديد تأثير الفشل على سيادة الدولة فالدول غير القادرة على الالتزام بمسؤولياتها يكون ذلك تبريرا مهما للتدخل في شؤونها على مستويات تعد سيادية و هنا يحدث انتهاك لسيادة الدولة بمبررات فشلها حيث يعد هذا أهم النقاط التي تثير الجدل بين التيار الذي يحذر من خطورة فشل الدولة على الأمن الإقليمي و العالمي و التيار الذي يعد ذلك انتهاكا لسيادة الدول لتنفيذ استراتيجيات معدة مسبقا في إطار استعمار بشكل جديد.

نماذج لفشل دولة ما بعد الاستعمار:

يتم التركيز دائما على الدول الفاشلة انطلاقا من كون الدول الإفريقية ابرز مثال على ذلك. لكن ما يجب الإشارة إليه أن فشل الدولة ليس صفة تختص بها قارة إفريقيا، بل هناك حالات فشل في قارات أخرى; مثل الحالة اللبنانية خلال السبعينات و الثمانينات، كذا المكسيك خلال العقدين الأول و الثاني من القرن العشرين، إضافة إلى الصين خلال العشرينات من نفس القرن[xxx]. لكن أهم الدول التي يتم الإشارة إليها هي الصومال الكونغو الديمقراطية ليبيريا و سيراليون.

الصومال:

بالنسبة للصومال فلغة الشمال هي الانجليزية و الجنوب الايطالية ­ باعتبارها كانت مستعمرة من الانجليز و الايطاليين­ لكن اللغة الرسمية للبلاد هي العربية. يتم ربط هذا التمايز المهم بالتمايز الموجود على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي بين شمال وجنوب البلاد، فعلى سبيل المثال ركزت حكومة الرئيس سياد بري على الجنوب في حين كان الشمال يعاني من مجاعة حادة، و انفجرت الأزمة أكثر في البلاد بقيام قوات الحكومة بقصف مناطق التي تقطنها قبائل إسحاق الشمالية سنة 1989 مخلفة ما يقارب 100 الف ضحية بين قتلى و جرحى هذا ما رفع مستوى الاقتناع بالاختلاف و زاد من عمق اشكالية الهوية و الانتماء في البلاد فقامت قبائل الشمال باعلان استقلالها سنة 1991 معلنة جمهورية ارض الصومال[xxxi].

يرى بعض الباحثين أنه لا مؤشرات حول نهاية الحرب الأهلية في الصومال على المدى المنظور. كما أن هذه الحرب قد قضت على آمال وطن لم يقدَّر له في الأصل أن ينعم بوحدة ترابه، إذ تمّت تقسيمه و إخضاع أجزاء مهمة منه لسلطات الدول المجاورة، حيث أن للخبرة الاستعمارية جزء من التأثير على الاستقرار في الدولة. و قيام الحرب الأهلية إضافة إلى تسلط النظام السياسي لدولة ما بعد الاستقلال، وتعثّر تجربته التنموية وهيمنة القبيلة على البنى الاجتماعية في البلاد[xxxii].

تشاد و الكونغو:

الحالة التشادية ففي بداية السبعينات أصبح فرانسوا تومبالباي زعيم الحزب التقدمي التشادي من جماعة السارة – و التي تمثل الفلاحين الذين يسكنون جنوب تشاد– رئيسا للبلاد، قام بوضع مسئولين من السارة على رأس الإدارات في الشرق و الشمال، و بدا بفرض ثقافة السارة على كامل البلاد، و هو ما دفع جبهة تحرير تشاد في الشرق و جبهة التحرير الوطني في الشمال، إلى طلب المساعدة لتنحية تومبالباي من الحكم[xxxiii] . كما بدا أن الصراع في الكونغو بررازافيل ينتهي في تلك الفترة، لكن في سنة 1992 و مع تولي الجنوبي باسكال ليسوبا الحكم في البلاد في انتظار الانتخابات القادمة، أعلن الرئيس السابق دينيس ساسو نغوسو ترشحه لولاية أخرى، حيث بدأ التوتر السياسي في البلاد، فأقام كل منهما جيشه الخاص. دعمت جماعة الكوبرا ساسو نغوسو، أما جماعة الزولو فكانت مع ليسوبا، في حين أن محافظ العاصمة برنارد كوليلاس قام بتنظيم جماعته العسكرية هو الآخر النينجا، و بدأت المعارك[xxxiv].

حيث تتعدد نماذج ضعف الدول و القول بفشلها، كما تتعدد الأسباب المحددة في هذا الإطار، إلا انه لا يمكن بأي حال من الأحوال البحث فيها، دون التطرق لتأثير الاستعمار و إشكالية بناء دولة ما بعد الاستعمار لينتقل الحديث حول إعادة البناء، لفشل عملية الاستيراد الأولى.

الخاتمة

لا يمكن وضع قاعدة أو سيناريو حتمي لمستقبل دولة ما بعد الاستعمار، و إن كانت قد مرت عقود منذ استقلال اغلب الدول، فالنقاط التي تضعف من هذه الدول و تكبح التنمية فيهنا تتعدد، و لا يمكن تلخيصها باي شكل كان في إطار طريق واحد يسمى طريق الفشل، و من بين أهم العناصر المساهمة في ضعف دول ما بعد الاستعمار، نجد الفساد و تأثير المنظومة الاقتصادية العالمية على اقتصاديات هذه الدول، حيث تبق رهينة المديونية و تقديم الفوائد و تأجيل السداد و إعادة جدولة الديون، ليتراجع الاهتمام بالبرنامج التنموي الذي كان أساس هذه القروض في الأصل.

إن ما تم التوصل إليه و إن كان يوحي باتصاله بنظرية المؤامرة، إلا أن هذا ما تم استنتاجه من البحث في هذه النقطة، إن عدم الاستقرار الذي تعيشه هذه الدول عل جميع الأصعدة له جذور تعود للاستعمار، و لغياب الإرادة الحقيقية للتغيير، و تأثير الوضع الدولي الراهن على هذه الدول.

[i] James CHIRIYANKANDATH,Colonialism and Post-Colonial Development, p:44­45

[ii] نيفين مسعد,علي الدين هلال, النظم السياسية العربية قضايا الاستمرار والتغيير. ص: 95

[iii] نفس المرجع, ص ص: 206­214.

[iv] نفس المرجع, ص ص: 141­142.

[v] Refonder l’Etat africain post colonial par la décentralisation et l’intégration régionale, Compte-rendu de l'atelier 3, jaga.afrique-gouvernance.net, p : 02.

[vi] نيفين مسعد,علي الدين هلال, ص ص:129­130

[vii] نفس المرجع , ص:303.

[viii] نفس المرجع, ص ص: 145­ 146.

[x] نيفين مسعد,علي الدين هلال, مرجع سابق, ص ص:146­ 148.

[xi] نفس المرجع, ص:281.

[xii] Robert H. BACES, When Things Fell A Part: Sorte Failure in Late Century Africa. New York :Cambridge University Press, 2008. P: 22.

[xiii] نفس المرجع, ص: 283

[xiv]James CHIRIYANKANDATH, op.cit, p:47

[xvi] Fonchingong Tangie, The State and Development in Africa, p:01

[xvii] Paul Collier,The political economy of state failure. Oxford Review of Economic Policy, Volume 25, Number 2, 2009, p235

[xviii] سميرة شرايطية، تأثير الدول الفاشلة على الاستقرار الأمني: دراسة في العلاقة بين الفشل الدولاتي و التهديدات الأمنية الجديدة . رسالة ماجستير، جامعة محمد خيضر، الجزائر، 2010، ص: 54.

[xix] نفس المرجع. ص: 53.

[xx] Burry Buzan, Ole Waever, Regions and Powers: The Structure of International Security. (New York: Cambridge Studies in International Relations,2003).. p: 220

[xxi] Ibidem.

[xxii] Ibid. p:219

[xxiii] يحيى بن الوليد, خطاب ما بعد الاستعمار.الكلمة, ع:16, افريل 2008.

[xxiv] نفس المرجع, ص:13.

[xxv] نفس المرجع, ص ص: 06­10..

[xxvi] نفس المرجع, ص ص: 12­13.

[xxvii]Fonchingong Tangie, op.cit, p:02.

[xxviii] التقرير الاوربي حول التنمية 2009, التغلب على الهشاشة في افريقيا :صياغة نهج اوربي جديد, مركز روبرت شومان للدراسات المتقدمة, المعهد الجامعي, سان دومينيكو دي فيسولي. ص:54.

[xxix] Donald W Potter State Responsibility, Sovereignty, and Failed States. School of Government, University of Tasmania , Refereed paper, Australasian Political Studies Association, Conference University of Adelaide, 29 September-1 October 2004, p:08

[xxx] Gerard KREIJAN, State Failure, Sovereignty and Effectiveness: Legal Lessons from Decolonization of Sub– Saharian Africa. Boston: Martinus Nijhoff Publishers, 2004, P: 65.

[xxxi] نيفين مسعد,علي الدين هلال, مرجع سابق, ص:282.

[xxxii] أزمة الدولة في الوطن العربي, مرجع سابق.

[xxxiii] Robert H. BACES, op.cit, P: 22.

[xxxiv] Ibid, p: 23




 
 
 

Comments


bottom of page